القائمة الرئيسية

الصفحات

شريط الاخبار

فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين .. سيرة فتى يرى مصر بنظرة "برانية"

فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين .. سيرة فتى يرى مصر بنظرة "برانية"
فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين .. سيرة فتى يرى مصر بنظرة "برانية"
مر الزمن وما زالت لفيلم "المهاجر" (1994) ليوسف شاهين كل شحنته العاطفية وآنيته، وهو معروض حاليا على منصة نيتفليكس التي تقدم أفلاما عربية مهمة.
يسترجع فيلم "المهاجر" حكاية قديمة ويصف ويفسر واقعا ما زال قائما. حكاية فتى وسيم (رام أداء خالد النبوي) ولديه بسْطة في الجسم، افترس الذئب غنمه، فسال دمه، فاضطر للهجرة من بلد الرعي والقحط إلى بلد النّيل والمِعمار والمعرفة "بحثا عن عمل فيه مخ".
ما سبب الهجرة؟
الفتى في محنة مع ذويه، لا يوافقونه الرأي، تلك محنة "نوح" 2014 في فيلم دارين أرونوفسكي. بنى النبي السفينة وانطلق، وظن أنه ترك الشر خلفه؛ لكن الشر في كل مكان... هكذا يهاجر البطل بدافع سامٍ.
في كل السرود القديمة، كانت الهجرة محطة أساسية في حياة كل بطل. لا قيمة لبطل أو نبي في وطنه. وغالبا ما يحقق المجد بعد ذهاب وعودة. تغيير المكان محوري في النجاح. بهذا الشكل، فالمكان ليس مجرد جغرافيا صماء... وهو يحدد التعامل مع البطل. يقترح رام على حكام مصر أنه بدل من جعل الفلاحين عساكر من الأفضل تحويل العساكر إلى فلاحين لتوفير الغذاء. تقابل الاقتراحات الذكية لرام بسخرية، ويُذكر بقانون المكان، فهو غريب وليس مصريا. إذن، لا دُخل له.
كيف يعمق الديكور البعد الدرامي للفيلم؟
يصور يوسف شاهين مشاهد مرسومة مسبقا على جدران المعابد، جدران عظيمة عبارة عن ديكور أحادي اللون... يقرأ رام، المهاجر العبراني، تاريخ البلد على الجدران: تنتهي المعركة بالويل لكل من تسول له نفسه الهجوم على مصر الجميلة.
على الرغم من تصنيف رام غريبا، فإن المهاجر تمكن من إنقاذ مصْر من الجوع فعليا. الكاميرا لا تلتقط الرؤيا.. لذلك، جسّدها المخرج في حقل أصفر يخْضر. حوّل الصّحراء إلى جنة خضراء بالعمل لا بالمعجزة. لا معجزات لِرَام، هكذا تمّت أنسنة النبي الذي ضعُف أمام الجسد الباذخ لسيدة القصر العطشانة.
وبسبب الخوف من ردود الأفعال عن هذه الأنسنة، بدأ الفيلم بإعلان إبْراء ذمة بهذه المقدمة الثقيلة: "أحداث هذا الفيلم لا تمت بصِلة إلى أية قصة أو حادثة في التاريخ"، يرسخ هذا الادعاء الفكرة المسبقة لدى المتفرج وهي التشابه بين قصة يوسف وقصة رام.
طبعا، سيرة يوسف نصّ روته أفواه وأقلام وكاميرات كثيرة. يستثمر الفيلم السرد الديني العتيق لتفسير المرحلة بحكاية طفل يتيم مكروه مفقود متبنّى يهاجر ليثبت عبقريته وينتصر في كل الاختبارات، فيحقق إنجازا، فيستعيد أصوله النبيلة... هذه حكاية تتردد في ثقافات كثيرة وقد روتها مسلسلات كثيرة ركزت على شر الإخوة الذي لا حدود له ضد الفتى المحبوب يريد كل أخ قتل أخيه لتزيد حصته في الإرث... غريب أن تتولد المتعة عن مشاهدة قصة معروفة. الفن الحقيقي يصمد.. لكن الزمن معيار.
تصنف أفلام يوسف شاهين ضمن سينما المؤلف. عادة تكون في سينما المؤلف قصص شخصية جيدا يصعب على الجمهور فهمها والتفاعل معها... لكن قصة فيلم "المهاجر" ذات حمولة تواصلية هائلة رسخت مجد الممثلة يسرى وكشف الغلامية حنان تُرك لعالم السينما... الفيلم نموذج لكاستينغ صعب يحقق تصور المخرج للشخصية.
هذا الاختيار عامل حاسم لمخرج يكتب سيناريوهاته وهو يفكر في الممثلين أثناء الكتابة، يفكر في لغة الجسد لديهم... وهي العجينة التي يشتغل عليها لبناء عالمه الفني.
في أفلامه يبني يوسف شاهين لغة مشتركة مع الممثلين، لكل ممثل نبْر ومزاج مكتوب وبدقة، والنتيجة تظهر اختلافات الأمزجة بوضوح بين الممثلين في الفيلم. بل والأهم يظهر اختلاف أداء الممثل في فيلم يوسف شاهين عن أدائه في أفلام غيره من المخرجين. مثلا، الدور الصغير لمُزيّن التماثيل (أحمد بدير) الذي يعبر عن اعتزازه بفنّه بغض النظر عن النزاعات الدينية، نظرات صفية العُمري الوقحة وصدمة يسرى (سميحيت) التي تقدم أداء مكبوحا بعيدا عن الاندفاع الذي تؤدي به عادة.
في فيلم "المهاجر" تم فيه استدعاء التاريخ لنقد السلطة ومساءلتها عن ممارسات ممتدة في الزمن، مثلا بينما البلد فيه جوع يقرر الفرعون بناء مدينة جديدة في دولة عرفت أعرق حكم بيروقراطي في التاريخ.
يستخدم يوسف شاهين هذه الحكاية المعروفة كذريعة لعرض سوسيولوجيا بلد يُضعِفه صراع مراكز النفوذ.
تعيش مصر احتجاجات شعبية، يتعرض موكب هامون للرمي بالحجارة، يستدعي الفرعون قائد الجيش لقمع الشعب. يجيب القائد: "مهمة الجيش هي حماية حدود البلد وليس قمع الشعب".
يعيش البلد نزاعا سياسيا ودينيا على خلفية اقتصادية جعلت الشعب على حافة الجوع.... لكن، يا للسخرية، يبدو الشعب مشغولا بنزاع آلهته أكثر من تدبير واقعه اليوم البئيس.. لذلك يسخر رام من تقاليد التحنيط التي تعطي قيمة للأموات أكثر من الأحياء. تحصل أجساد الموتى على عناية شديدة لا يحصل عليها حتى جسد زوجة العزيز الذي يَيْبس... زعم هيرودوت في تاريخه أن "المصريين متدينون إلى حدّ الإفراط" ص149، حسب يوسف شاهين فهذا المشكل ما زال قائما وله تبعات يومية على رقابة الإنتاج الفني في مصر.

تعليقات